
ثمة طرفة شهيرة كنا نتداولها ونحن صغار عن الشخصية الأسطورية الهزلية جحا ،ومما يروى أن جحا تعود ممازحة الناس والادعاء بأنه يتعرض لخطر ماحق ، يزعق بالصراخ ،انقذوني فاذا سارعوا اليه ،قال لهم :لقد ضحكت عليكم ، ثم صادف ان تعرض ذات مرة لمحنة حقيقية فلما صرخ واستنجد ،قال الناس : أنه جحا الكذاب الذي حتى وان قال صدقا فإنه يكذب،بهذه الطريقة تعاطى العالم مع جائحة كورونا ، إذ اعتبرها العالم في البداية مزحة عابرة على شاكلة طرائف جحا وسوف تنقضي مع مرور الأيام كما حدث مع كثير من الامراض المماثلة ، لكن لماذا كل هذه الشكوك والريبة التي رافقت كورونا رغم سقوط المرضى وارتفاع حالات الموت بسببه في زمن قياسي ؟ يتفق أغلب الناس شرقا وغربا على ان عالمنا قد غادرته البراءة والنزاهة والصدق منذ زمن بعيد ، وان الالاعيب والمكائد السياسية والخبث التجاري لا يخلو منها اليوم أي شأن صحي او طبي او اقتصادي ، وحتى اذا شهدنا حدثا حقيقيا فانه اما يضخم ويجري تهويله، او يتم توظيفه بما يخدم المصالح المطلوبة في هذه الدولة او تلك ، وهكذا تشيع الكذبة وتختفي الحقيقة ، وجاءت جائحة كورونا في زمن سيطرة الإعلام الرقمي الذي لا سيطرة للحكومات عليه ،فانهمرت على رؤوس الناس الحقائق الصحيحة و المتضاربة والمغلوطة ،الحق والباطل ، المعلومة الطبية والخرافة ، وتداخل الشأن السياسي مع الإعلامي مع الطبي فالتبس على الناس التي هي بطبعها أقرب الى تصديق المؤامرة في عالم لا يقول الصدق ،وراجت الكتابات وافلام الفيديو عن المؤامرة بأشكال شتى ، ولم يصدر ذلك من بشر عاديين صالوا وجالوا فيما لاعلم له فيه فحسب ،بل من مختصين وأطباء أحيانا ،وتساءل البعض اذا كان المرض واقعا فلماذا أحجم المسؤولون والقادة الكبار عن ارتداء الكمامة في أوج انتشار المرض ؟ ألم يقل رئيس اكبر واقوى دولة في العالم ترامب أنه فيروس صيني الصنع ، وأنه سينتهي بعد الانتخابات الأمريكية ،ألم يظهر مكشوف الوجه أمام الرأي العام بدون كمامة في مناسبات عدة مستهينا بالرأي العلمي والطبي ؟ الم يشكل ذلك خرقا للأمن الوطني والإجراءات الوقائية التي يجدر بالرئيس أن يكون قدوة لها ؟ ألم يكن ترامب أكبر من صب النار في زيت نظرية المؤامرة ؟ لم يتفاجأ العالم من استسهال تعاطي الشعب الأمريكي والأوروبي مع الجائحة؟
ثم ما كدنا ننتهي من معركة حقيقة وجود الجائحة من عدمها بعد أن انحسرت نظرية المؤامرة على اثر تداعيات الجائحة وحجم الكوارث التي طالت العالم شرقا وغربا ، فلم تعتق أحدا ،وتساوت فيها الدول المتقدمة مع المتخلفة ، حتى وجدنا انفسنا نخوض معركة اللقاح وهل هو آمن ومحصن من المضاعفات ام لا ،وهل نسارع الى تعاطيه حالا ام نتريث وننتظر الى ان يجربه غيرنا ونرى تأثيره عليهم أولا ، وأيها الأفضل والأقل ضررا الصيني او الامريكي او الروسي ؟ لم تخلو معركة اللقاح هي الأخرى من الأسئلة المشككة والمستريبة أيضا عن أسباب تعدد اللقاحات وتنوع تأثيراته والدراسات التي أجريت عليه وكيفية تفاعل الأجساد معه والمضاعفات المحتملة إن وجدت ، وهل يقينا من المرض نهائيا ام سيكون على شاكلة الانفلونزا الموسمية التي تزورنا كل عام ؟ ولماذا لا ينتج العالم لقاحا واحدا مضمونا ومؤكدا ،ولماذا يتحتم على البشرية ان تختبر هذه المرة أيضا التنافس التجاري والتكنولوجي الشره المحموم من أجل الربح ؟
المعروف ان انتاج اللقاحات وتعاطيها ترافق مع الجدل دوما ،وانتهت البشرية الى أنها السبيل الأكثر أمانا وضمانا لاتقاء شتى الامراض ، ولعل اختلاف المختبرات يعود الى تعدد تجاربها والتكنولوجيا المتوفرة لديها وعدد الدراسات التي أجرتها والنتائج التي توصلت إليها ،ويرى كثير من المختصين أن تنوع اللقاحات أفضل من الاقتصار على نوع واحد حتى اذا اخفق أحدهما ينجح الآخر ،وهناك اليوم مواقع وبرامج ومجلات علمية رصينة تتابع حراك اللقاح في العالم وترصد نتائجه على المطعومين أولا بأول وتتنافس الدول على شراءه لأن كلفة اللقاحات أقل من كلفة المرض وارتداداته على منظومتها الصحية والاقتصادية.
التطعيم هو الحل الأمثل لاستعادة حياتنا الطبيعية بعد الخسائر الضخمة التي لم تسلم منها لا دولة غنية ولا فقيرة ، بيد ان للناس الحق في اختيار اللقاح والتوقيت الملائم وفقا لقناعاتهم واستجابة لمخاوفهم ، لكن جدير بنا جميعا تلقي المعلومة من أهل الاختصاص والمواقع الطبية والعلمية الرصينة ، والمهم اننا خلصنا من قضية المؤامرة وهل المرض موجود ام لا بعد أن استغرقنا هذا الأمر عاما كاملا ، وكنت قد تابعت منذ انطلاق الجائحة برامج ومواقع الكترونية تخصصت في دحض قضية المؤامرة ، لكن عموم الناس كانوا أقرب الى تصديقها مما القى بحمل ثقيل ومضاعف على الطاقم الطبي والمختصين من اجل اقناع الناس بالانضباط الصحي والتقيد بالتباعد الجسدي وتحاشي الاختلاط وعدم تصديق غير المختصين .
ومما لاشك ان مملكة البحرين تعد من أفضل الدول التي تعاملت مع ملف الجائحة ، وقد خضت ذاتيا الفحص وجربت الحجر ، وشاهدت بنفسي الحرفية العالية في التعامل مع المرض ، وهانحن نتعاطى بنفس القدرة مع استخدام اللقاح ، ولعل نجاحنا مع ملف كورونا يذكر بما لدينا من ملفات اخرى سياسية واجتماعية وادارية عالقة ،نتمنى ان نتعامل معها بنفس الجدية والانضباط وصولا الى المعالجات والحلول التشاركية والمُرضية للجميع .